اليوم عند مهدك المستلقي مثل قارب قديم، اليوم تجتاحني موجة عشق لعينيك، فأمسك بكفك، فأقبض على فراغات، وتفاصيل، وجغرافيا ممتدة من تاريخ أهمله التاريخ إلى حيث ترعرعت روحي بين يديك، وحيث نمت أعشاب القلب، واكتملت تفاصيل القصيدة في دفتر الحلم الأول، يوم قلت لا تجزع يا بني، فغداً تكبر، ومعك تكبر أمنياتك، وتتسع دروب العاشقات، وتلقى من تقرأ في عينيك تفاصيل أول شهقة، وأول نبضة، وأول دفقة
تراكم في وعيك معنى أن يكون الإنسان في حالة عشق وجودية لا ينطفئ أوارها، ولا يخمد لها حريق.
وفي اليوم الثاني من أيام العيد، أشعر بنبوءاتك تلك، وبوعيك السابق لزمانك، أشعر أنك كنت الخنساء، ونسيبة بنت كعب الأنصاري، أشعر بأنك كلما اقتربت من قاربك هذا الصغير، كلما تهادى عمري بين أمواج الأسئلة، وكيف يمكن لطفلة أن تكبر وتصبح بين الشيخوخة والطفولة، عمراً يتهجّى حروف الأيام، ويرتكب فضيلة الحنث، لقارعة تدق أجراسها في الرأس، فتوقظ فراخ الطير، فتنهض الأعشاش باكراً، لتطهو قهوة الصباح وتكيل بمكاييل، لأجل أن تضيع حقيقة الوجود، وأن تختفي من العالم كلمة حب، ولا يبقى سواك سيدتي لأنك عندما تحضرين، تنتفي الحاجة إلى الحب، ولأنك الحب، ولأنك اقتطفت من شجرة العالم، وكل ما ينتسب إلى مشاعر العشاق، وكل ما يدور في الخلد، وكل ما ما حفظه الطير من نشيد يغري به أنثاه، ويستدعي فيها صبوة العشق.
اليوم سيدتي بالذات، أشعر وأنا أتأمل عينيك، بأن هناك في محيط مهجتك سؤال الوجود الأزلي، لماذا لا يختفي الاغتراب من هذا العالم، ولا يبقى غير الحنين يحوك قماشة الوجد بخيوط من دمع وآهٍ، لتستمر الحياة، منحوتة من رموش امرأة عاشقة، وكائن بشري يتحول فجأة من وحش إلى أرنب ودود، يخفي في ضامره، ما أخفاه الأوائل من أنباء ما في الغيب من أسئلة لكي لا تنكسر الخيمة العملاقة وتهوي على رؤوس الأشهاد. عندما أقف أمام هذا العرنون الشامخ المتوهج ألقاً أشعر بصغر العالم، وكبرك، أشعر بتفاهة الحياة، بدونك، أشعر بدونية النساء إلاك، أشعر بضآلة العالم، إلا ثغرك المتوهج حروفاً، كأنها النجوم تتوارى خلف غيمة غادرة.
فكرت أن أسكب فنجان قهوة كي أستدعي فيك مهارة التذوق، وكي أجلب ما توارى من وعي، وما تدارى من خيال، في رأسك، ولكن، لم يحالفني الحظ، كنت قد نسيت محفظة الوعي في درج الزمان، كنت قد تخليت لبرهة عن الحديث، وكانت عيناك تفصحان عن رغبة في استراحة قصيرة، وأنا بين الـ«لا»، والـ«نعم»، أتوه في ريعان اللاوعي، وتغيب مني العبارة أشعر بأنك لست أنت، وأنت المرأة التي أحببتها، تاهت في أزقة الزمن، وضيعت مفاتيح الذاكرة، وأيقنت بأنني أحاول خوض مبارزة مع الحقائق، وأيقنت بأنني، مثل مشعوذ يحاول فك رموز قصة من عصر عاد وثمود، وينهي الجدل، وبابتسامة باهتة، وتنطلي الكذبة على كذب وتولي، ولم يبق من الزمن ما يسمح بإعادة الرحى إلى أول حبة قمح تستدير تحت حجرها، فالطفل الذي كان شاخت فيه تفاصيل العمر، وانبرى سيفاً مثلماً، والرأس تتجاذبه أمواج مشاعر، والعمر يتسرب من بين أصابعه، كقطرات ماء عذب، وأنت.. أنت سيدتي التي قلت لي ذات دمعة ساخنة، خذ من زمانك ما تشتهي، ودع لغيرك زمانه، لأن الحياة رغيف إن أكلته كله، جاع غيرك، وإن جاع غيرك، توحش، وأصبحت الحياة غابة ملتهبة بالأنياب الحادة. الله كم أنت رائعة وأنت تخبئين كل هذا في جيب القلب المتعب، والزائرون يجهلون ماذا تكنه محارة البحر من جوهر ودر نفيس.