اعتدت على طريقة ولا أدري من أين جئت بها للتعبير عن غضبي وسخطي، تتلخص في تركي للمكان الذي حدث فيه ما تسبب بذلك الشعور. أتركه تماماً، بما فيه ومن فيه بكل هدوء. حدث ذلك أول مرة -أعي نفسي فيها - عندما كنت في بيت أصدقاء أسرتي، لا أذكر سبب غضبي لهذه الدرجة، ولكني أذكر تماماً أني أخذت مفتاح سيارة والدي وقررت انتظارهم فيها حتى تنتهي زيارتهم لأعود معهم لمنزلنا!
كنت في عمر لم يتجاوز الثمانية عشر، وقد بدأت للتو أشعر أنني مختلفة عندما اكتشفت أسلوبي هذا، ووجدت فيه راحة بالغة، ومع الزمن أصبحت أتصرف به بشكل أكثر عقلانية وأقل عدوانية كما أعتقد. فهمت كلما كبرت أنني أتقن «فن الاستغناء» والترك، كلما تمكنت من التخلي عن أناس لا يستحقون أن أهدر طاقتي وأعصابي وصحتي ووقتي لأجلهم، إنها أمور أثمن بكثير من أن أخسرها من أجل آخرين ليسوا معنيين بها. تعلمت أن الاستغناء يعني تجاوز أولئك الذين لا يشكلون إلا وزناً زائداً في حقيبة حياتي، وأدركت أن الاستغناء يعني حسم الأمور المعلّقة بلا معنى، ويعني الانعتاق من الالتزامات التي لا داعي لها بلا حرج، ويعني حتى التخلص من تلك الأفكار العالقة، والتي اعتقدت بصدق أنها راسخة لن تتزعزع، تعلمت أن الاستغناء لا يعني التخلي عن كل هذا.. إنما التخلي عن تعلقي بها!
تأكدت مع استخدامي لهذا التصرف - الذي أصبح أكثر وعياً - أنني أنتقل لمنطقة مختلفة تماماً، تتفوق فيها مشاعر السكينة والسلام على مشاعر الضيق والكدر. كنت وما زلت أجدها الطريقة الأفضل للتعبير عن غضبي بأسلوب لن أسيء فيه لنفسي قبل أن أسيء لأي أحد.. فقط أترك المكان وأغادر بلا حسرة أو ألم، وبكل هدوء.
لا أنصح أحداً بهذا، فالمثير بشأنه أن هذا التصرف لن تجرؤ عليه مرة، وإن فعلتها ولم يصبك ألم من ندم على نتيجته أو حسرة على ما قد يفوتك، فإنك ستفعلها مراراً، وبهدوءٍ أشدّ في كل مرة.
والأهم من ذلك أن الاستغناء تصرف الأقوياء، لا الضعفاء الذين يفرون من المواجهة، لأنه سلوك يجب أن يحصل بعد أن يسبقه الكثير من محاولات التغيير. وعندما يحين وقته، يجب أن يكون في اللحظة التي ينقطع فيها الأمل من الآخر، سواء كان شخصاً أو علاقة أو فكرة! وقتها، عليك أن تترك المكان تماماً، فلعلّه بالترك تتغير أموره - وإن لم يحدث - فبالتأكيد ستتغير أمورك.
الآن وبعد هذا العمر أدرك تماماً أن الاستغناء فعل سكينة لا يحتاج إلى ضجيج، إنه القوة الحقيقية التي ستشعر بها حين تختار سلامتك النفسية على انتصارك الصوتي، وراحتك الذهنية على إثبات وجهة نظر ليس هناك من يقدرها.. المهم أن تكون واثقاً أنه لن يلحق فعل هذا أدنى التفاتة.. أو ندم أنك لم تحاول.