كان من الرجال الذين سمعت عنهم ينعتون بـ «الزكرتيه» دون أن نعلم معناها، ومن أين أتت تلك الكلمة، لذا تشابهت على الناس، بعضهم يحسبها تعني «الخكاك»، والبعض يصحح ويقول إن معناها «هابّ ريح»، لكنها تجمع المعنيين ويزيد، «الكوس» كان واحداً من أولئك الرجال، و«الكوس» لقب التصق به، حتى كاد أن يغيّب اسمه، ونعت بذلك ربما لمزيج من روائح الطيب التي كان يتضمخ بها، ويدهن بها شعره المضفر والمعقوص، والذي كان يسدله على طرفي كتفيه، فتسبقه إلى الأمكنة مثل ريح الكوس، إنْ هَبّت مطلع أو جنوبية غربية.
كان طويلاً ممتلئاً، فيه سمنة الرجال الذين تغربوا للعمل، وعرفوا شيئاً من النعيم وبذخ الحياة، وحين عاد، اكتفى بأن لا يعمل مجدداً، وعليه الاستمتاع بوقته، بعد ما قسّم الأربعين الأولى للآخرين والشقاء، وما بقيت من السنوات للنفس، كان يلبس الكندورة المورسة والمعصفرة، ويزين وسطه وصدره بمحزم «البنايد»، وخنجر غالية فيها دق من الذهب، ويعتمر بعمامة كبيرة بعض الشيء وعليها خزام صوفي مفضض، يخرج من بيته منذ الصباح منتعلاً تلك النعال النجدية، وعصاه في يده، يتريق عند فلانة، ويتقهوى في بيت فلان، وغداؤه موزع كل يوم على أحد بيوت العين أو البريمي أو حماسا، فمعارفه كُثر، وهو غالباً ما يتخيطرّ بعد أن يدق بعروة عصاه الباب قائلاً: «هودّ يا أهل البيت»! فلا يجد غير الترحيب، وكرم الضيافة الذي يجود بالموجود، رحلة اليوم عنده طويلة، فهو كمن يهرب من بيته لبيوت الناس، ينشد الأنس، ويطلب الألفة، فتجده إنْ ذهب إلى المعترض لا يعود إلى العين إلا قبل المغرب، جل يومه في السلامات والزيارات وتبادل الحديث، وسرد الحكايات، وما رأى في دنياه، حتى أن البعض أرجع نعت «الكوس» إلى تلك الأقاصيص المختلقة، والتي عادة ما ينسى نهاياتها أو يزيد في عدد شخوصها.
اكتفى «الكوس» بالحياة وحيداً مع قصصه التي جلبها من العمل في السعودية لسنوات طويلة، وبعد زيجات لم تكن ناجحة لتصمد، ولا تستوعب حياته التي كان يحبها أن تكون خالية، وتسمح له بـ «العِيَبّ»، فقد كانت تكفيه أن يقال «الكوس» تراه معجب بفلانة، أو ينبري واحد ممن يحب المقالب ويقول له: «الكوس» أمس يقول الناس أنهم قصّوا أثر نعالك النجدية عدال الندود الشمالية، كل ذلك ولو من باب التسلية وقضاء الوقت، وفتح باب لـ «الكوس» لكي يستحلب كل قصصه التي بالتأكيد لا يحتاج ليستلف لها، لأن الأهالي كانوا يقولون: «الكوس» محزمه لا يخلو من طلقات! وقصصه لا تخلو من خيال وهبال بالجانب الأنثوي، والتي يستمتع بها الجلساء معه، بعد أن تبين سنان ذهبيتان في طرف فكه الأيسر، ليظل بالليالي يستدعي القصائد التي حفظها أو يزيد عليها مما يهَلّ على رأسه، مستمتعاً بها وهو يقطع المسافات ماشياً طوال يومه، تؤنس خطواته الثقيلة على تلك الرمال الناعمة، أو في استراحاته الكثيرة تحت ظل نخلة أو ظل سدرة.
الأعراس كانت من الأشياء المفرحة لقلبه، لأنه سرعان ما ينضم لصفوف العيالة، أو يجول في ميدانها، لأن كل تلك الأمور تجلب معجبين من الرجال أو حتى من النَعّاشات، الإعجاب كان غايته في كل الأمور، وحين لا يجد من يعطيه تلك المتعة، يرد إلى الشعر ويقصد في نفسه، وفي بطولاته الوهمية، ومغامراته تحت جنح الظلام!